لماذا أحب بوكوفسكي؟
يمنات
ضياف البراق
أحبه، ببساطة، لأنه كاتب قذر، قذر حد الشجاعة، والصراحة، والنقاء. إن هذا الأديب القذر (الجميل بلا حدود!)، يدهشني كثيرًا، يعذبني، يجعلني أتصادم مع نفسي أو مع واقعي أو مع تلك الأشياء التي لم أفهمها بعدُ.. إنه يزعجني ويضحكني في آن، يقتلني حينًا وينقذني في حين آخر، وهكذا ما زال يعبث بي كي أتجرّعَ معه مرارة الألم، وأتذوَّق جراحات أدبه العظيم.
الكاتب العظيم، هو ذلك الحُرّ، الصريح، الذي يقول ما يريد بدون تحفّظ أو مساحيق، وينقل الواقع كما هو. وبوكوفسكي كاتب واضحٌ دومًا، يخلو من المثالية والنفاق، يخلو من التعصُّب لذاته، شديد الجرأة وكثير البذاءة اللفظية، لا يرتدي الأقنعة مطلقًا، ولا يتملق الجمهور. فليس بكاتب من يتملق الجمهور أو من يكتب من أجل إرضاء جماعة بعينها أو طائفة فكرية ما. إنني أحب الكاتب الواضح، الصريح.
إن الكاتب العظيم، الكاتب الثوري الصادق، عاشق الحرية والبحث عن الحقيقة، الذي لا يدير ظهره لمعاناة الناس المسحوقين، ولا يتملق أو ينحني، هو في نظر المحافظين والرجعيين، هو كاتبٌ قذر أو منافق أو مرتزق، إلخ. تحية كبيرة، هنا، لكل الكتاب القذرين!
بوكوفسكي سَخِرَ من كل شيء حتى من زملائه، إذ لم يترك شيئًا في مجتمعه الأمريكي “الخانق”، إلا وكتب عنه بأسلوبٍ ناري مثير للدهشة والسخرية. كذلك، اِستطاع أن يتعايش بشكل أو آخر مع عالمه العبثي الخاص، مع عزلته المريرة، مع مجتمعه الرأسمالي المعقّد، وتعايش مع نفسه بكل بساطة وسخرية، كما أنه قزَّمَ الحياة، وحطّ من قدرها عبْر فلسفته الأدبية المغايرة، حتى جعلها سهلة على العيش بعد أن كانت أشد صعوبة عليه.
هو رجل المغامرات الصعبة، مبدع “متوحش” يعشق التحطيم دومًا، عبقري لا يضاهى عندما يتعمق تفاصيل الحياة ويعيد كتابتها على نحو تهكمي مليء باللامبالاة والإثارة. عاش حياته التعِسَة بأسوأ ما عنده من الوقاحة، وبكل حرية أيضًا، إذ لم يخضع لشيء أو لقيد أو لشرط، ولم ينخرط في دائرة الأخلاق أو العادات، كان يمتاز بقدرة كفاحية متمردة ومتفانية، جعلته يتجاوز كل العقبات والعراقيل بمنتهى الغرابة، وكان يتمتع بحيوية ذاتية عصية على الموت.. إنه لم يكن رجلًا “عاديًّا” على الإطلاق.
ها هو يقول عن نفسه:
– لا أحب أن أكون صنيعة المجتمع.
– أنا من السهل إسعادي، ولكن المشكلة في بقية العالم.
– كنت دائمًا وحيدًا وأنا بصحبة الجميع.
– افهمني، أنا لستُ كالعالم التقليدي، لدي جنوني الخاص، وأعيش في بعد آخر.
هذا هو الوغد بوكوفسكي، 1920 – 1994، شاعر وقاص وروائي شهير، أمريكي من أصل ألماني: رجُل نادر الشخصية، نادر الجنون، ممتلئ بالتمرد والسخرية والبؤس، منغمِس في الشراب والجنس والكتابة، لم ينكسر طوال حياته الصعبة، لم يمارس المثالية أبدًا، ولم يلهث، بحق، وراء الأضواء.. إنه أحد كبار مبدعي الكتابة الجديدة في أمريكا في ذلك الزمان.
شِعره ثري جدًا رغم سهولته، جدير بالقراءة، كونه يجمع بين بساطة اللغة وحداثة الأسلوب، كذلك لأنه يخلو من التصنُّع، والابتذال الممل، ومن المحسنات اللغوية.. ويطفح كثيرًا بالوجع والقفزات الجديدة التي تدهش القارئ الجيد. شعر بوكوفسكي، باختصار، جديد النكهة، عميق المعنى، خصب دومًا، يهتم بتفاصيل الحياة اليومية، ويتناول هموم ومعاناة الناس البسطاء والمسحوقين، وكذلك، مشاكل الحياة المُرّة.
أمّا العبقرية عند بوكوفسكي، فهي: القدرة على قول شيء عميق بأسلوب بسيط. وبوكوفسكي، حقيقةً، لم يكن يعجبه في الحياة سوى الكتابة، فقد عاش يقدِّسها ويداعبها أكثر من نفسه.
“الكتابة أنقذتني من مستشفى المجانين، من القتل ومن الانتحار. أنا في حاجة دائمة إليها. الآن. غدًا. وحتّى النَّفس الأخير”، هكذا يعترف بوكوفسكي في رسالة مثيرة كتبها، رُبّما، خلال أيام حياته الأخيرة إلى شخص ما.
هذا الشاعر “المنفلِت”، صاحب العمل الشعري الشهير: الحب كلب من الجحيم، وغير ذلك من الأعمال الغزيرة والمتنوعة – إنه لم يكن يكتب من أجل المال أو الشهرة، وإنما كان يكتب من أجل النجاة من ورطة الحياة – الحياة التي يعدّها هو – أي بوكوفسكي – بأنها: «مشكلة». إنه لم يكن مقلِّدًا لغيره، فقد كان مختلفًا تمام الاختلاف، لا يشبه هذا ولا ذاك، وليس من أحد يشبهه سواه.. لقد كان، دائمًا، ذاته هو. إنه حين يكتب، ينفجر مثل لغم، يشتعل كثورة كاملة، لا يخاف من أي شيء، إنه يكتب بكل جوارحه، يكتب بكل غضبه وحزنه، بفرحه، بخيباته ويأسه، وهكذا كان، وهكذا سيبقى.
“الكتابة الحَذِرة هي كتابة ميّتة”، يقول بوكوفسكي. وأنا، هنا، أتفق معه تمامًا.
آه، كمْ عانى هذا الكائن المثير للجدل! لقد عانى من حياة أسرية، وكذا اجتماعية، حياة قاسية جدًا، طالتْهُ منذُ فجر طفولته حتى مات، تقريبًا. حتى أعماله لم تنل الشهرة، ولم تلقَ الإعجاب اللائق، إلا بعد زمنٍ طويل من المعاناة، والتهميش المؤسسي، واللعنات الأخرى، والكفاح الجبّار. ربما، نستطيع القول إنه لم يرتحْ إلا قليلًا خلال الفترة الأخيرة من حياته، أي عندما أخذتْ أعماله تخرجُ إلى الضوء، إلى الحياة، بل وتخرجُ من الحدود الأمريكية أيضًا.
كتابة بوكوفسكي، اِنتحار، إنها انتحار ضروريّ مذهل، انتحار لغوي – إبداعي من أجل الاستمرار في الحياة، لا أكثر. أجل، الكتابة أجمل وأعظم أشكال الانتحار. إن رواية «أدب رخيص»، الرواية القذرة الممتعة والتي قرأتها “أنا” قبل حوالي عام من الآن، هي آخر ما كتب بوكوفسكي، وقد كتبها بأسلوب استثنائي جديد قبل أن يودّع الحياة/المشكلة متأثرًا بسرطان الدم، وهي رواية مجنونة بلا حدود: إنها الرواية المُهداة من كاتبها إلى “الكتابة السيّئة”.
الكتابة عن هذا الصعلوك الشاسع، السكِّير الكبير الذي تجاوز حدود المنطق والكتابة والحياة، هنري تشارلز بوكوفسكي، إنها لا تنتهي ولا تنضب، لكنني أكتفي بهذا القدر البسيط.
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.